الطرح الإشكالي
من المباحث الأساسية في الفلسفة المعاصرة نجد مبحث
الإبستمولوجيا (الدراسة النقدية للمعرفة العلمية)، لقد ارتكز هذا المبحث
على مجموعة من المفاهيم الفلسفية المرتبطة بالمجال العلمي وعلى رأسها
مفهومي النظرية والتجربة اللذان يطرحان عدة قضايا فلسفية سواء على مستوى
النظرية أو على مستوى التجربة، أو على مستوى العلاقة بينهما، إضافة إلى
تعدد المعايير لتمييز النظرية العلمية عن باقي أنواع النظريات الأخرى، وهي
قضايا يمكن أن تتخذ شكل أسئلة فلسفية منها:
- ما هي شروط التجربة؟ وما هي خصائص النظرية؟
- ما طبيعة العلاقة بينهما؟ وأي منهما يؤكد صحة الآخر؟
- ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز المعرفة العلمية؟
المحور الأول: التجربة والتجريب
خطوات المنهج التجريبي
إن المنهج التجريبي يفترض في العالم – حسب كلود بيرنار – الإحاطة بشرطين:
- أن تكون لديه فكرة (فرضية) يخضعها للفحص في ضوء الوقائع.
- أن يلاحظ بساطة الظاهرة الماثلة أمامه ملاحظة أكثر شمولية.
على الملاحظ أن يكون بمثابة آلة تصوير أثناء معاينته للظاهرة ينقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة، حيث يجب أن يلاحظ بدون فكرة مسبقة.
إن العالم المتكامل هو الذي يجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية عبر الخطوات التالية:
- يعاين واقعة، أي الملاحظة.
- ميلاد فكرة (فرضية) في ذهنه تبعا للمعاينة.
- الاستدلال على الفكرة بعد معاينتها ذهنيا، وذلك باللجوء إلى التجربة.
- تنتج عن التجربة ظواهر جديدة عليه أن يلاحظها، وهكذا دواليك.
إن ذهن العالم – حسب بيرنار – يشتغل بين ملاحظتين تمثل
الملاحظة الأولى منطلق الاستدلال العلمي، وتمثل الملاحظة الثانية خلاصة
الاستدلال، أي التجربة.
التجريب العلمي
كثيرا ما تم الحديث عن التجربة التي شكلت إحدى السمات الأكثر
تمييزا للعلم الكلاسيكي، غير أن في الأمر غموضا، بالنسبة لألكسندر كويري
فالتجربة بمعناها الخام والملاحظة العامية لم تلعب أي دور في نشأة العلم
الكلاسيكي، اللهم إلا دور العائق، أما التجريب وهو المساءلة المنهجية
للطبيعة، فيفترض افتراضا مسبقا اللغة التي يطرح من خلالها العالم أسئلته،
حيث يسائل الطبيعة بلغة رياضية، أو بتعبير أدق بلغة هندسية حسب كويري.
المحور الثاني: العقلانية العلمية أو النظرية
التجربة تـحدد النظرية
إن النظرية الفيزيائية يتم بناؤها – في تصور بيير دوهيم – من خلال أربع عمليات متتالية وهي:
- اختيار الخصائص الفيزيائية البسيطة، والتعبير عنها برموز رياضية، وأعداد، ومقادير.
- الربط بين هذه المقادير بواسطة عدد من القضايا التي تستخدم كمبادئ لاستنتاجاتنا، هذه المبادئ يطلق عليها اسم الفرضيات.
- تركيب فرضيات النظرية حسب قواعد التحليل الرياضي، وأن نستنبط منها نتائج ضرورية.
- إن النتائج التي استخرجناها من الفرضيات هي التي تشكل النظرية الفيزيائية الجديدة.
وهكذا فالنظرية الصحيحة – حسب دوهيم – هي التي تعبر بشكل مرضي
عن مجموعة من القوانين التجريبية، أما النظرية الخاطئة فهي التي لا تتوافق
مع القوانين التجريبية.
النظرية تـحدد التجربة
إن نسقا كاملا للفيزياء النظرية يتكون من مبادئ وقوانين تربط
بين تلك المبادئ وقضايا مستنبطة منها بشكل ضروري بواسطة الاستنباط المنطقي،
هذه النتائج هي التي يجب أن ترتبط بالتجربة، وهكذا حدد ألبير آينشتاين لكل
من العقل والتجربة مكانتهما في نسق الفيزياء النظرية، فالعقل يمنح النسق
بنيته، أما المعطيات التجريبية وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق القضايا
الناتجة عن النظرية، إن البناء الرياضي الخالص وليس التجربة هو الذي يمكننا
من اكتشاف المبادئ والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة، وإذا كانت
الوقائع التجريبية لا تتطابق مع النظرية فينبغي تغيير الوقائع وليس النظرية
حسب آينشتاين.
المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية
معيار القابلية للتجريب
إن الواقعة التجريبية لا يمكن أن تكون علمية – في نظر رونيه طوم – إلا إذا استوفت شرطين هما:
- أن تكون قابلة لإعادة الصنع، وهذا يتطلب أن تكون محاضر إعداد التجربة وإجرائها دقيقة بما يكفي للتمكن من إعادتها في أزمنة وأمكنة أخرى.
- أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا، يتمثل الاهتمام التطبيقي في الاستجابة لحاجيات بشرية، أما الاهتمام النظري فيعني أن البحث يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة.
في هذه الحالة يكون الهدف من التجريب – حسب طوم – هو التحقق
من صدق فرضية ما (نظرية) تتضمن قضايا عقلية يتم التسليم بوجودها، كالعلاقات
السببية، أي الربط بين السبب والنتيجة.
معيار القابلية للتكذيب
إن القابلية للتكذيب (أوالتفنيد) – في نظر كارل بوبر – هو
معيار التمييز بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتـجريبية، لذلك يطلق
عليه كذلك معيار القابلية للاختبار، إن اختبار نظرية ما يعني محاولة تبين
العيب فيها، وبالتالي فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب
فيها أو تفنيدها، لهي نظرية غير علمية لأنها نظرية غير قابلة للاختبار، إن
نظرية نيوتن في الجاذبية قابلة الاختبار، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن
المدارات الكوكبية عند كبلر، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده، ونظرية آينشتاين في
الجاذبية قابلة للاختبار كذلك، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات
الكوكبية عند نيوتن، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده مجددا.
استنتاجات عامة
إن العلاقة التي تربط النظرية بالتجربة علاقة جدلية (أي علاقة
تأثير وتأثر)، فالنظرية تؤثر في التجربة من خلال تأطيرها وتوجيهها عندما
تـحدد عناصر وتفاعلات التجربة، والتجربة تؤثر في النظرية من خلال تصحيحها،
عندما تكتشف الأخطاء التي تتضمنها، وبذلك تتقدم النظرية، وهذا ما يجعل
المعرفة العلمية معرفة متطورة، تتطور بفعل هذا الجدل بين النظرية والتجربة.
0 Commentaires